سورة المؤمنون - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


ولما كانت عظمة الملك مقتضية لتقبل ما أتى به والتشرف به على أيّ حال كان، نبه على أنه حق يكسب قبوله الشرف لو لم يكن من عند الملك فكيف إذا كان من عنده، فكيف إذا كان ملك الملوك ومالك الملك فكيف إذا كان الآتي به خالصة العباد وأشرف الخلق، كما قام عليه الدليل بنفي هذه المطاعن كلها، فقال عاطفاً على {آتيناهم}: {وإنك} أي مع انتفاء هذه المطاعن كلها {لتدعوهم} أي بهذا الذكر مع ما قدمنا من الوجوه الداعية إلى اتباعك بانتفاء جميع المطاعن عنك وعما جئت به {إلى صراط مستقيم} لا عوج فيه ولا طعن أصلاً كما تشهد به العقول الصحيحة، فمن سلكه أوصله إلى الغرض فحاز كل شرف، والحال أنهم، ولكنه عبر بالوصف الحامل لهم على العمى فقال: {وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة} فلذلك لا يخشون القصاص فيها {على الصراط} أي الذي لا صراط غيره لأنه لا موصل إلى القصد غيره {لناكبون} أي عادلون متنحون مائلون منحرفون في سائر أحوالهم سائرون على غير منهج أصلاً، بل خبط عشواء لأنه يجوز أن يراد مطلق الصراط وأن يراد النكرة الموصوفة بالاستقامة.
ولما وصفوا بالميل، وكان ربما قال قائل: إن جؤارهم المذكور آنفاً سلوك في الصراط، بين أنه لا اعتداد به لعروضه فقال: {ولو رحمناهم} أي عاملناهم معاملة المرحوم في إزالة ضرره وهو معنى {وكشفنا} أي بما لنا من العظمة {ما بهم من ضر} وهو الذي عرض جؤارهم بسببه {لَلَجّوا} أي تمادوا تمادياً عظيماً {في ظغيانهم} الذي كانوا عليه قبل الجؤار وهو إفراطهم في منابذة الحق والاستقامة {يعمهون} أي يفعلون من التحير والتردد فعل من لا بصيرة له في السير المنحرف عن القصد، والجائر عن الاستقامة، قال ابن كثير: فهذا من باب علمه بما لا يكون لو كان كيف كان يكون، قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما فيه لو فهو مما لا يكون أبداً. ثم أتبع هذا الدليل تأييداً له ما يدل على أنهم لا يسلكون الصراط إلا اضطراراً فقال: {ولقد أخذناهم} أي بما لنا من العظمة {بالعذاب} أي بمطلقه كإظهار حزب الله عليهم في بدر وغيرها {فما استكانوا} أي خضعوا خضوعاً هو كالجبلة لهم {لربهم} المحسن إليهم عقب المحنة، وحقيقته ما طلبوا أن يكونوا له ليكرموا مقام العبودية من الذل والخضوع والانقياد لأوامره تاركين حظوظ أنفسهم، والحاصل أنه لما ضربهم بالعذاب كان من حقهم أن يكونوا له لا لشركائهم، فما عملوا بمقتضى ذلك إيجاداً ولا طلباً {وما يتضرعون} أي يجددون الدعاء بالخضوع والذل والخشوع في كل وقت بحيث يكون لهم عادة، بل هم على ما جبلوا عليه من الاستكبار والعتو إلا إذا التقت حلقتا البطان، ولم يبق لهم نوع اختيار، بدليل ما أرشد إليه حرف الغاية من أن التقدير: بل استمروا على عتوهم {حتى إذا فتحنا} أي بما لنا من العظمة، ودل على أنه فتح عذاب فقال: {عليهم باباً} من الأبواب التي نقهر بها من شئنا بحيث يعلوه أمرها ولا يستطيع دفعها {ذا عذاب شديد} يعني القتل والأسر يوم بدر- قاله ابن عباس رضي الله عنهما، أو القحط الذي سلطه عليهم إجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» {إذا هم فيه} أي ذلك الباب مظروفون لا يقدرون منه على نوع خلاص {مبلسون} أي متحيرون ساكنون على ما في أنفسهم آئسون لا يقدرون أن ينطقوا بكلمة، داخلون في الإبلاس وهو عدم الخير، متأهلون لسكنى بولس وهو سجن جهنم، لعدم جعلهم التضرع وصفاً لهم لازماً غير عارض، والخوف من الله شعاراً دائماً غير مفارق، استحضاراً لقدرته واستكباراً لعظمته؛ ثم التفت إلى خطابهم، استعطافاً بعتابهم، لأنه عند التذكير بعذابهم أقرب إلى إيابهم، فقال: {وهو} أي ما استكانوا لربهم والحال أنه هو لا غيره {الذي أنشأ لكم} يا من يكذب بالآخرة، على غير مثال سبق {السمع والأبصار} ولعله جمعها لأن التفاوت فيها أكثر من التفاوت في السمع {والأفئدة} التي هي مراكز العقول، فكنتم بها أعلى من بقية الحيوانات، جمع فؤاد، وهو القلب لتوقده وتحرقه، من التفؤد وهو التحرق، وعبر به هنا لأن السياق للاتعاظ والاعتبار، وجمعه جمع القلة إشارة إلى عزة من هو بهذه الصفة، ولعله جمع الأبصار كذلك لاحتمالها للبصيرة.
ولما صور لهم هذا النعم، وهي بحيث لا يشك غافل في أنه لا مثل لها، وأنه لو تصور أن يعطي شيئاً منها آدمي لم يقدر على مكافأته، حسن تبكيتهم في كفر المنعم بها فقال: {قليلاً ما تشكرون} لمن أولاكم هذه النعم التي لا مثل لها، ولا يقدر غيره على شيء منها، مع ادعائكم أنكم أشكر الناس لمن أسدى إليكم أقل ما يكون من النعم التي يقدر على مثلها كل أحد، فكنتم بذلك أنزل من الحيوانات العجم صماً بكماً عمياً.


ولما ذكرهم بهذه النعم التي هي دالة على خلقهم، صرح به في قوله: {وهو} أي وحده {الذي ذرأكم} أي خلقكم وبثكم {في الأرض} ولما ذكرهم بإبدائهم المتضمن للقدرة على إعادتهم مع ما فيها من الحكمة وفي تركها من الإخلال بها، صرح بها فقال: {وإليه} أي وحده {تحشرون} يوم النشور.
ولما تضمن ذلك إحياءهم وإماتتهم، صرح به على وجه عام فقال: {وهو} أي وحده {الذي} من شأنه أنه {يحيي ويميت} فلا مانع له من البعث ولا غيره مما يريده. ولما كانت حقيقة البعث إيجاد الشيء كما هو بعد إعدامه، ذكرهم بأمر طالما لا بسوه وعالجوه ومارسوه فقال: {وله} أي وحده، لا لغيره {اختلاف الليل والنهار} أي التصرف فيهما على هذا الوجه، يوجد كلاًّ منهما بعد أن أعدمه كما كان سواء، فدل تعاقبهما على تغيرهما، وتغيرهما بذلك وبالزيادة والنقص على أن لهما مغيراً لا يتغير وأنه لا فعل لهما وإنما الفعل له وحده، وأنه قادر على إعادة المعدوم كما قدر على ابتدائه بما دل على قدرته وبهذا الدليل الشهودي للحامدين، ولذلك ختمه بقوله منكراً تسبيبَ ذلك لعدم عقلهم: {أفلا تعقلون} أي يكون لكم عقول لتعرفوا ذلك فتعملوا بما تقتضيه من اعتقاد البعث الذي يوجب سلوك الصراط.
ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري النفي، حسن بعده كل الحسن قوله: {بل} وعدل إلى أسلوب الغيبة للإيذان بالغضب بقوله: {قالوا} أي هؤلاء العرب {مثل ما قال الأولون} من قوم نوح ومن بعده؛ ثم استأنف قوله: {قالوا} أي منكرين للبعث متعجبين من أمره: {أإذا متنا وكنا} أي بالبلى بعد الموت {تراباً وعظاماً} نخرة، ثم أكدوا الإنكار بقولهم: {أإنا لمبعوثون} أي من باعث ما.
ولما كان محط العناية في هذه السورة الخلق والإيجاد، والتهديد لأهل العناد، حكى عنهم أنهم قالوا: {لقد وعدنا} مقدماً قولهم: {نحن وآباؤنا} على قولهم: {هذا} أي البعث {من قبل} بخلاف النمل، فإن محط العناية فيها الإيمان بالآخرة فلذلك قدم قوله: {هذا} والمراد وعد آبائهم على ألسنة من أتاهم من الرسل غير أن الإخبار بشموله جعله وعداً للكل على حد سواء، ثم استأنفوا قولهم: {إن} أي ما {هذا إلا أساطير الأولين} أي كذب لا حقيقة له، لأن ذلك معنى الإنكار المؤكد.
ولما أنكروا البعث هذا الإنكار المؤكد، ونفوه هذا النفي المحتم، أمره أن يقررهم بأشياء هم بها مقرون، ولها عارفون، يلزمهم من تسليمها الإقرار بالبعث قطعاً، فقال: {قل} أي مجيباً لإنكارهم البعث ملزماً لهم: {لمن الأرض} أي على سعتها وكثرة عجائبها {ومن فيها} على كثرتهم واختلافهم {إن كنتم} أي بما هو كالجبلة لكم {تعلمون} أي أهلاً للعلم، وكأنه تنبيه لهم على أنهم أنكروا شيئاً لا ينكره عاقل.
ولما كانوا مقرين بذلك، أخبر عن جوابهم قبل جوابهم، ليكون من دلائل النبوة وأعلام الرسالة بقوله استئنافاً: {سيقولون} أي قطعاً: ذلك كله {لله} أي المختص بصفات الكمال. ولما كان ذلك دالاً على الوحدانية والتفرد بتمام القدرة من وجهين: كون ذلك كله له، وكونه يخبر عن عدوه بشيء فلا يمكنه التخلف عنه، قال: {قل} أي لهم إذا قالوا لك ذلك منكراً عليهم تسبيبه لعدم تذكرهم ولو على أدنى الوجوه بما أشار إليه الإدغام: {أفلا تذكرون} أي بذلك المركوز في طباعكم المقطوع به عندكم، ما غفلتم عنه من تمام قدرته وباهر عظمته، فتصدقوا ما أخبر به من البعث الذي هو دون ذلك، وتعلموا أنه لا يصلح شيء منها- وهو ملكه- أن يكون شريكاً له ولا ولداً، وتعلموا أنه لا يصح في الحكمة أصلاً أنه يترك البعث لأن أقلكم لا يرضى بترك حساب عبيده والعدل بينهم.
ولما ذكرهم بالعالم السفلي لقربه، تلاه بالعلوي لأنه أعظم فقال على ذلك المنوال مرقياً لهم إليه: {قل من رب} أي خالق ومدبر {السماوات السبع} كما تشاهدون من حركاتها وسير نجومها {ورب العرش العظيم} الذي أنتم به معترفون {سيقولون لله} أي الذي له كل شيء هو رب ذلك- على قراءة البصريين، والتقدير لغيرهما: ذلك كله لله، لأن معنى من رب الشيء: لمن الشيء، فتفيد اللام الملك صريحاً مع إفادة الرب التدبير.
ولما تأكد الأمر وزاد الوضوح، حسن التهديد على التمادي فقال: {قل} منكراً عليهم عدم تسبيبه لهم التقوى: {أفلا تتقون} أي تجعلون بينكم وبين حلول السخط من هذا الواسع الملك التام القدرة وقاية بالمتاب من إنكار شيء يسير بالنسبة إلى هذا الملك العظيم هين عليه.


ولما قررهم بالعالمين: العلوي والسفلي، أمره بأن يقررهم بما هو أعم منهما وأعظم، فقال: {قل من بيده} أي خاصة {ملكوت كل شيء} أي من العالمين وغيرهما، والملكوت الملك البليغ الذي لا نقص فيه بوجه؛ قال ابن كثير: كانت العرب إذا كان السيد فيهم فأجار أحداً لا يخفر في جواره وليس لمن دونه أن يجيرعليه لئلا يفتات عليه. ولو أجار ما أفاد، ولهذا قال الله تعالى: {وهو يجير} أي يمنع ويغيث من يشاء فيكون في حرزه، لا يقدر أحد على الدنو من ساحتة {ولا يجار عليه} أي ولا يمكن أحداً أبداً أن يجير جواراً يكون مستعلياً عليه بأن يكون على غير مراده، بل يأخذ من أراد وإن نصره جميع الخلائق، ويعلي من أراد وإن تحاملت عليه كل المصائب، فتبين كالشمس أنه لا شريك يمانعه، ولا ولد يصانعه أو يضارعه؛ وقال ابن كثير: وهو السيد المعظم الذي لا أعظم منه الذي له الخلق والأمر، ولا معقب لحكمه الذي لا يمانع ولا يخالف، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
ولما كان هذا برهاناً مع أنه ظاهر لا يخفى على أحد، قد يمجمج فيه من له غرض في اللدد، ألهبهم إلى المبادرة إلى الاعتراف به وهيجهم بقوله: {إن كنتم} أي كوناً راسخاً {تعلمون} أي في عداد من يعلم، ولذلك استأنف قوله: {سيقولون لله} أي الذي بيده ذلك، خاصاً به، والتقدير لغير البصريين: ذلك كله لله، لأن اليد أدل شيء على الملك.
ولما كان جوابهم بذلك يقتضي إنكار توقفهم في الإقرار بالبعث، استأنف قوله: {قل} منكراً عليهم تسبيب ذلك لهم ادعاء أنه سحر، أو صرف عن الحق كما يصرف المسحور {فأنّى تسحرون} أي فكيف بعد إقراركم بهذا كله تدعون أن الوعيد بالبعث سحر في قولكم: أفتأتون السحر وأنتم تبصرون، ومن أين صار لكم هذا الاعتقاد وقد أقررتم بما يلزم منه شمول العلم وتمام القدرة؟ ومن أين تتخيلون الحق باطلاً، أو كيف تفعلون فعل المسحور بما تأتون به من التخطيط في الأقوال والأفعال، وتخدعون وتصرفون عن كل ما دعا إليه؟
ولما كان الإنكار بمعنى النفي، حسن قوله: {بل} أي ليس الأمر كما يقولون، لم نأتهم بسحر بل، أو يكون المعنى: ليس هو أساطير، بل {أتيناهم} فيه على عظمتنا {بالحق} أي الكامل الذي لا حق بعده، كما دلت عليه (ال) فكل ما أخبر به من التوحيد والبعث وغيرهما فهو حق {وإنهم لكاذبون} في قولهم: إنه سحر لا حقيقة له، وفي كل ما ادعوه من الولد والشريك وغيرهما مما بين القرآن فساده كما لزمهم بما أقروا به في جواب هذه الأسئلة الثلاثة.
ولما كان من أعظم كذبهم ما أشار إليه قوله تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً} [مريم: 88] قال: {ما اتخذ الله} أي الذي لا كفوء له، وأعرق في النفي بقوله: {من ولد} لا من الملائكة ولا من غيرهم، لما قام من الأدلة على غناه، وأنه لا مجانس له، ولما لزمهم بإقرارهم أنه يجير ولا يجار عليه، وأن له السماوات والأرض ومن فيهما.
ولما كان الولد أخص من مطلق الشريك قال: {وما كان} أي بوجه من الوجوه {معه} فأفاد بفعل الكون نفي الصحة لينتفي الوجود بطريق الأولى {من إله} وزاد {من} لتأكيد النفي؛ ولما لزمهم الكذب في دعوى الإلهية بولد أو غيره من إقرارهم هذا، أقام عليه دليلاً عقلياً ليتطابق الإلزامي والعقلي فقال: {إذاً} أي إذ لو كان معه إله آخر {لذهب كل إله بما خلق} بالتصرف فيه وحده ليتميز ما له مما لغيره {ولعلا بعضهم} أي بعض الآلهة {على بعض} إذا تخالفت أوامرهم، فلم يرض أحد منهم أن يضاف ما خلقه إلى غيره، ولا أن يمضي فيه أمر على غير مراده، كما هو مقتضى العادة، فلا يكون المغلوب إلهاً لعجزه، ولا يكون مجيراً غير مجار عليه، بيده وحده ملكوت كل شيء، وفي ذلك إشارة إلى أنه لو لم يكن ذلك الاختلاف لأمكن أن يكون، فكان إمكانه كافياً في إبطال الشركة لما يلزم ذلك من إمكان العجز المنافي للإلهية، كما بين في الأنبياء.
ولما طابق الدليل الإلزام على نفي الشريك، نزه نفسه الشريفة بما هو نتيجة ذلك بقوله: {سبحان الله} أي المتصف بجميع صفات الكمال، المنزه عن كل شائبة نقص {عما يصفون} من كل ما لا يليق بجنابه المقدس من الشريك والولد وغيره؛ ثم أقام دليلاً آخر على كماله بوصفه بقوله: {عالم الغيب} ولما كان العلم بذلك لا يستلزم علم الشهادة كما للنائم قال: {والشهادة} ولا عالم بذلك غيره.
ولما كان من الواضح الجلي أنه لا مدعي لذلك، ومن ادعاه غيره بأن كذبه لا محالة، وأن من تم علمه تمت قدرته، فاتضح تفرده كما بين في طه، تسبب عنه قوله: {فتعالى} أي علا العالم المشار إليه علواً عظيماً {عما يشركون} فإنه لا علم لشيء منه فلا قدرة ولا صلاحية لرتبة الإلهية.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8